محمد عاكف آرصوي ونشيد الاستقلال- رمز الأمة وإرادة المقاومة

المؤلف: د. ياسين أقطاي08.16.2025
محمد عاكف آرصوي ونشيد الاستقلال- رمز الأمة وإرادة المقاومة

"يا رب، لا تكتب على هذا الشعب أن يعيد كتابة نشيد وطني آخر!"، كانت هذه هي التمنية الصادقة التي لطالما راودت قلب محمد عاكف آرصوي، قامة الشعر التركي ورمز الاستقلال، والذي يقدّره الأدباء العرب ويجلّونه بلقب "شاعر الإسلام".

في الثاني عشر من مارس/آذار عام 2021، شهد البرلمان التركي لحظة تاريخية باعتماد النشيد الوطني، وتلا ذلك احتفال مهيب بمرور قرن كامل على هذا الحدث. ومنذ ذلك الحين، يُحتفل بهذا اليوم سنوياً، فالنشيد الوطني التركي يمثل للأتراك أكثر من كونه مجرد لحن وكلمات.

لقد كان نشيد الاستقلال تجسيداً حقيقياً لإرادة شعب توافد من كل حدب وصوب للنضال من أجل مستقبل تركيا، حاملاً معه التجارب القاسية والمشاعر المتدفقة التي اختلجت في تلك الحقبة العصيبة. وبرع محمد عاكف آرصوي أيما براعة في تصوير تلك الأحاسيس ونقلها بصدق. والحقيقة أن إبداعه تجاوز حدود الترجمة، فمن خلال شعره الأخاذ، استطاع أن يخلق أحاسيس جديدة وأن يفتح آفاقاً واسعة أمام أمته.

أُعلن رسمياً عن عام 2021 عاماً للاحتفاء بالشاعر المُلهَم محمد عاكف آرصوي وبالنشيد الخالد الذي خطّه بيمينه. وتتجلى أهمية هذا النشيد في كونه وُلِدَ في خضمّ ظروف قاسية كانت تعصف بتركيا آنذاك، فضلاً عن البلاغة الساحرة والجمالية الفائقة التي أبدعها المفكر الإسلامي محمد عاكف آرصوي في تلك الأبيات المضيئة.

إن هذا النشيد، الذي نردده اليوم في أجواء من الاستقرار والطمأنينة، قد صدحت كلماته للمرة الأولى في أروقة البرلمان التركي إبان حرب الاستقلال. وحينها، أجمع الحاضرون على أن هذا النشيد هو الأسمى والأرفع مقاماً، تحكيماً للكلمات، وجمالاً للمعنى، وجودة للتركيب الشعري. فبعد الاستماع إليه لمرة واحدة فقط، تسابق الناس على ترديده وحفظه عن ظهر قلب، على الرغم من المشاركة الواسعة في المسابقة التي أقيمت لاختيار النشيد الوطني الأمثل.

في تلك الفترة الحرجة، كان نشيد الاستقلال يعكس الإرادة الصلبة لشعب التف حول هدفه، يناضل ببسالة من أجل مستقبل مشرق لتركيا. لقد اختبر هذا الشعب تجارب مريرة، وعاش مشاعر جياشة خلال تلك المرحلة الخطيرة، واستطاع محمد عاكف آرصوي أن يترجم هذه المشاعر ببراعة لا تضاهى. لكن ما قام به يتعدى مجرد الترجمة؛ فشعره كان بمثابة نافذة فتحت آفاقًا جديدة، وأوقدت في النفوس أحاسيس عميقة لم تكن مألوفة من قبل.

إن الحديث عن الأبيات التي نظمها محمد عاكف آرصوي يطول من الناحية الشعرية، والفنية، والفلسفية. لكن خير شاهد على عظمة هذا الشاعر والمفكر هو التأثير العميق الذي تركه هذا النشيد في نفوس الناس، وكيف لامسهم بشكل شخصي، وعبّر عن جزء أصيل من حياتهم وتطلعاتهم.

ويؤمن الكاتب إيماناً راسخاً بأن النشيد الوطني التركي ليس مجرد أبيات شعرية عابرة، ولا ينطبق عليه قول الله تعالى: "والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون"، بل هو عمل فني رفيع ذو أبعاد جمالية سامية، يحمل في طياته معاني عظيمة تتصل بحياة الناس وتطلعاتهم.

إن هذه القصيدة، التي تتألف من عشرة مقاطع، تحمل في طياتها عبرًا عظيمة لهذه الأمة العريقة التي استوطنت هذه الأرض الطيبة منذ ألف عام، ونشرت فيها قيم السلام، والأمن، والعدالة. وعندما حان وقت المحنة، ووجدت الأمة نفسها في مواجهة تحديات تهدد وجودها ومستقبلها، كان هذا النشيد بمثابة قوة دافعة، يستهل بعبارة "لا تخف"، ليوقظ العزيمة ويشعل جذوة الأمل في القلوب. فلقد جاء في مطلع هذه القصيدة الخالدة:

لا تخف، لن تخمدَ الرايةُ الحمراءُ في شفقِ السماءْ

قبلَ أن تخمدَ في آخر دارٍ على أرض وطني شعلةُ الضياءْ

إنها كوكب سيظلُ ساطعا فهي لأمتي الغراءْ

إنها لي ولشعبي دون انقضاءْ

لقد اختار الشاعر هذه الكلمات بعناية فائقة، لأن الأوضاع في ذلك الوقت كانت تنذر بالخطر وتثير المخاوف. فالقوات اليونانية كانت تتقدم بثبات على جبهة مدينة بورصة، ولم تكن هناك أي بوادر تشير إلى قرب رحيل الغزاة، سواء بعد فترة وجيزة أو بعد انتهاء الاحتلال البريطاني لإسطنبول.

وبعد مرور ما يقارب قرن على رحيله، لا يزال الشاعر آرصوي رمزاً فكرياً وأدبياً حياً في أرجاء العالم الإسلامي، حيث تنقل بين ربوع تركيا العثمانية والجمهورية، وزار البلقان وسوريا ومصر، التي أمضى فيها أكثر من عقد من الزمان، بالإضافة إلى لبنان والجزيرة العربية.

ولد آرصوي في مدينة إسطنبول عام 1873، لأب قدم من قرية تقع في غرب كوسوفو بهدف الدراسة. وسرعان ما ذاع صيته في الساحتين الأدبية والأكاديمية، خاصة بعد انضمامه إلى جامعة إسطنبول في عام 1908 كأستاذ للأدب العثماني، ومشاركته في إصدار مجلة "صراط مستقيم" التي نشر فيها أغلب قصائد ديوانه الأول "صفحات" الذي صدر عام 1911.

أبدى الشاب محمد عاكف اهتماماً كبيراً بمؤلفات الشيخ محمد عبده، وقام بترجمة كتابه "الإسلام بين العلم والمدنية" (1901)، كرد على وزير الخارجية الفرنسي آنذاك غابرييل هانوتو، الذي عزا أسباب تأخر المسلمين إلى الإسلام نفسه. كما ترجم إلى اللغة التركية كتاب "اعتناق الإسلام".

ومع انطلاق حرب الاستقلال بقيادة مصطفى كمال أتاتورك، استقال محمد عاكف من منصبه الحكومي وانخرط في المعركة، خطيباً وشاعراً متجولاً، يشعل الحماس في نفوس الأتراك ويحثهم على المشاركة الفعالة في الدفاع عن وطنهم في وجه الاحتلال البريطاني، والفرنسي، واليوناني. وفي هذا السياق، انتخبته بلدة بوردور لتمثيلها في "المجلس الوطني الكبير" الذي افتتح في أنقرة في شهر أبريل/نيسان من عام 1920.

أصبح آرصوي واحداً من أبرز الشخصيات الأدبية في تركيا خلال أوائل القرن العشرين. وتناولت قصائده قضايا اجتماعية، وفلسفية، ودينية، وسياسية، وأخلاقية متنوعة. وقد جمعت هذه القصائد في سبعة دواوين شعرية، وبرزت مواهبه الشعرية بشكل لافت خلال الحرب العالمية الأولى، حيث ألهب مشاعر الأتراك بقصائد تدعو إلى الوحدة الإسلامية، من بينها قصيدة "المراحل" (1911)، و"محاضرة في السليمانية" (1912)، و"أصوات الحق" (1913)، و"محاضرة في الفاتح" (1914)، و"مذكرات" (1917)، و"عاصم" (1924)، و"الظلال" (1933).

وسط تلك الأجواء المفعمة باليأس، استطاع محمد عاكف آرصوي أن يرسم صورة مشرقة للمستقبل، وهي صورة تزداد تألقاً وجمالاً مع مرور الأيام. ولكن، مع الأسف، حدث انقلاب على القيم النبيلة التي اجتمع حولها الناس، والتي تجسدت في النشيد الوطني. وتم حظر استخدام الحروف العربية التي كُتب بها النشيد في الأصل، وخُلقت بيئة قمعية وجد فيها أشخاص مثل عاكف أنفسهم يعانون من التهميش، والملاحقة، والتصفية.

وفي ظل هذه الظروف القاسية، اضطر الشاعر إلى الهجرة إلى مصر، حيث دخل في حالة من الحزن والصمت الشديد، وكأنه يعيش موتاً بطيئاً، قبل وفاته الفعلية بوقت طويل.

وبالنسبة للشعب التركي، فإن هذا النشيد يعكس القوة الشخصية والشعرية الهائلة التي امتلكها عاكف، وهو ما ساهم في الحفاظ على أهمية النشيد الوطني وعظمته. وفي الثامن والعشرين من فبراير/شباط عام 1997، حاول أولئك الذين عادوا قيم ومعتقدات ومستقبل الأمة التركية أن يفتحوا جبهة جديدة ضد نشيد الاستقلال، وسعوا جاهدين لاستبداله بنشيد آخر في الذكرى العاشرة لوضعه، ولكن محاولاتهم باءت بالفشل الذريع.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة